Search
Close this search box.

السجون السرية التي تبقي المهاجرين خارج أوروبا

مركز احتجاز المباني، ليبيا. (Pierre Kattar/The Outlaw Ocean Project ©)​

فريق عمل منصة اللاجئين في مصر

منصة رقمية مستقلة تهدف لخدمة اللاجئين واللاجئات.

لأول مرة في مصر تنشر "منصة اللاجئين في مصر" الترجمة العربية للتحقيق الهام الذي أجراه الصحفي الاستقصائي "إيان أوربينا"،عن السجون السرية والجرائم الوحشية ضد اللاجئين والمهاجرين في ليبيا لإبقاء المهاجرين خارج أوروبا.

الكاتب: إيان أوربينا، هو مدير The Outlaw Ocean Project، وهي منظمة صحفية غير هادفة للربح مقرها في واشنطن العاصمة وتركز على الاهتمامات البيئية وحقوق الإنسان في البحر على مستوى العالم.


"سئم الاتحاد الأوروبي من وصول المهاجرين من إفريقيا. أنشأ نظام هجرة الظل الذي يأسرهم قبل أن يصلوا إلى شواطئه، ويرسلهم إلى مراكز الاحتجاز الليبية الوحشية التي تديرها الميليشيات."

مجموعة من المستودعات على جانبي الطريق السريع في حي غوط الشعال، وهو حي يتكوّن من محلات تصليح السيارات وساحات الخردة في غرب العاصمة الليبية طرابلس. كان الموقع في السابق مستودعا لتخزين الإسمنت والخرسانة، وقد أعيد فتحه في يناير/كانون الثاني 2021 وتم رفع جدرانه مؤخرا وتغطيتها بالأسلاك الشائكة. يقف عشرات الرجال في زيّ مموّه باللونين الأسود والأزرق مسلّحين ببنادق كلاشينكوف حول حاوية شحن زرقاء تبدو كمكتب. وعلى البوابة الأمامية، لافتة كُتب عليها “محكمة ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين”. في حقيقة الأمر، نحن أمام منشأة هي عبارة عن سجن سري للمهاجرين يُعرف باسم مركز “المباني”.

نُشر هذا التحقيق لأول مرة باللغة الإنجليزية  بالتعاون بين مجلة The New Yorker ومنظمة The Outlaw Ocean Project.

في الساعة الثالثة صباحا من الخامس من شهر فبراير/شباط 2021، أخذ رجال مسلّحون أليو كاندي، مهاجر قصير وقوي وخجول من غينيا بيساو، يبلغ من العمر 28 عاما، إلى السجن. كان كاندي قد غادر منزله قبل عام ونصف إثر فشل مشروعه المتمثل في مزرعة ليلتحق برحلة هجرة للانضمام إلى إخوته في أوروبا. ولكن أثناء عبوره البحر الأبيض المتوسط على متن قارب مزدحم مع مائة وثلاثين من المهاجرين غير النظاميين، اعترض خفر السواحل الليبي طريق هذه المجموعة وتمّ نقل الجميع إلى سجن مركز المباني. دُفع المهاجرون في الزنزانة رقم 4، حيث كان هناك حوالي مئتين آخرين محتجزين.. لم يكن هناك مكان للجلوس، وقد اضطر المهاجرين الموجودين على الأرضية إلى فسح المجال لتجنّب التعرّض للدهس. لم يتمّ إطفاء مصابيح الفلورسنت الموجودة في السقف مطلقا. شبكة صغيرة في الباب، بعرض قدم واحد، كانت المصدر الوحيد للضوء الطبيعي. تعشّش الطيور الهاربة من حظيرة مجاورة في العوارض الخشبية، وتتساقط فضلاتها وريشها من الأعلى. جلس كاندي في زاوية بعيدة وبدأ يشعر بالذعر. وسأل زميلا له في الزنزانة “ماذا عسانا أن نفعل؟”.

صورة شخصية أرسلها "أليو كاندي" إلي عائلته فور وصوله إلى ليبيا. (Jacaria Candé ©)
صورة شخصية أرسلها "أليو كاندي" إلي عائلته فور وصوله إلى ليبيا. (Jacaria Candé ©)

لم يعلم أحد من خارج مركز المباني أنّ كاندي قد تمّ القبض عليه. لم يتمّ اتهامه بارتكاب أي جرم، ولم يُسمح له بالتحدث مع محام، ولم يقدّم له أي مؤشر عمّا إذا كان سيُسمح له بالمغادرة يوما ما. في الأيام الأولى، بقي منعزلا خاضعا للروتين القاتم للمكان. كان السجن خاضعا للواء الزنتان، إحدى أقوى الميليشيات في ليبيا. ويقوم جنود اللواء بدوريات في المجمع. كان هناك حوالي 1500 مهاجر محتجزين في ثماني زنزانات مفصولين حسب الجنس. لم يكن هناك إلا مرحاض واحد لكلّ مائة شخص. وكان على كاندي في كثير من الأحيان التبوّل في قارورة ماء أو التبرّز في الحمامات. ينام المهاجرون على مراتب أرضية رقيقة موبوءة بالقمل والجرب والبراغيث، لم يكن هناك عدد كاف من المراتب، لذلك كان كلّ مهاجريْن اثنين يتناوبان على النوم، أحدهما أثناء النهار والآخر في الليل. وكان المحتجزون يتشاجرون حول من يتسنى له أن ينام في الحمام باعتبار أنه المكان الوحيد الذي يوجد به تهوية. كانوا يسيرون مرّتين في اليوم في صفّ واحد في فناء السجن لتناول وجبات الطعام، وكانوا ممنوعين من النظر إلى السماء أو الحديث أثناء المسير. كان الحرّاس، على غرار حرّاس حدائق الحيوانات، يضعون أوعية طعام مشتركة على الأرض، ليتجمّع المهاجرون في حلقات لتناول الطعام على الأرض.

كان الحرّاس قساة ويضربون المسجونين الذين يخالفون الأوامر بواسطة كلّ ما كانت تطاله أيديهم، مجرفة أو خرطوم أو كابل أو غصن شجرة. يتحدث توكام مارتن لوثر، وهو رجل متقدّم في السن كان ينام على السجادة بجوار كاندي، عن هذه المأساة الإنسانية التي يكابدها صحبة بقية المهاجرين غير النظاميين في هذا السجن: “كانوا يضربون أي شخص دون سبب على الإطلاق”. كان المحتجزون يعتقدون أنّ الحراس كانوا يرمون كلّ من يموت بالقرب من كومة من الطوب والركام خلف أحد الجدران الخارجية للمجمع. وكان الحراس يمنحون المهاجرين حرّيتهم مقابل مبلغ قدره 2500 دينار ليبي – أي ما يعادل تقريبا 500 دولار أمريكي. أثناء وجبات الطعام، كان الحرّاس يتجولون حاملين هواتف خلوية ويعرضون السماح للمحتجزين بالاتصال بأهاليهم القادرين على دفع المال. لم تكن عائلة كاندي قادرة على دفع الفدية، ممّا جعله عالقا. ويقول لوثر في نفس المضمار: “إذا لم يكن لديك شخص يمكن الاتصال به للمساعدة فيجب أن تكتفي فقط بالجلوس هناك”. 

في السنوات الست الماضية، أنشأ الاتحاد الأوروبي، الذي سئم التكاليف المالية والسياسية للمهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، نظاما غامضا يوقفهم قبل أن يصلوا إلى شواطئ أوروبا. قام الاتحاد بتمويل خفر السواحل الليبي وتدريبه وتجهيزه، وأصبح هذا الجهاز منظمة شبه عسكرية تقوم حاليا بدوريات في البحر الأبيض المتوسط حيث تمنع بذلك عمليات إنقاذ المهاجرين الذين تعتقلهم قبل إعادتهم إلى التراب الليبي. بعد ذلك يتمّ احتجاز المهاجرين إلى أجل غير مسمّى في نظام معسكرات الاعتقال في ليبيا. تُدار السجون عادة من قبل إحدى الميليشيات القوية المتنافسة في ليبيا. في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي 2021، تم إرسال حوالي 6000 مهاجر إلى هذه السجون ونُقل معظمهم إلى سجن “المباني”. وقد وثقت وكالات الإغاثة الدولية مجموعة من الانتهاكات على غرار تعرّض المعتقلين للتعذيب بالصدمات الكهربائية واغتصاب أطفال من قبل الحرّاس وابتزاز العائلات من أجل الحصول على فدية، إلى جانب بيع الرجال والنساء للعمل القسري.

يقول وزير العدل الليبي السابق صلاح المرغني في هذا الإطار: “الاتحاد الأوروبي قام بشيء فكّر فيه بعناية وخطّط له لسنوات عديدة، وهو خلق فجوة من الجحيم في ليبيا بهدف ردع الناس عن التوجه إلى أوروبا”.

بعد مرور ثلاثة أسابيع من تاريخ وصول كاندي، وضعت مجموعة من المعتقلين خطة للهروب. موسى كروما، مهاجر من ساحل العاج، إلى جانب عدّة أشخاص آخرين، قضوا حاجتهم في سلّة مهملات وتركوها في ركن الزنزانة لمدّة يومين حتى أصبحت الرائحة الكريهة لا تُطاق. ويقول كروما في هذا الصدد “كانت تلك المرة الأولى في السجن… لقد كنت مذعورا”. عندما فتح الحرّاس أبواب الزنزانة، اندفع نحوهم تسعة عشر مهاجرا وصعدوا فوق دورة مياه منخفضة السقف وقفزوا من فوق الجدران بمسافة 15 قدما واختفوا في منطقة من الأزقة قرب السجن. وقد كانت العواقب دموية بالنسبة لمن بقي من المهاجرين. استدعى الحرّاس تعزيزات وأطلقوا النار على الزنازين قبل أن يبدأوا في ضرب المحتجزين. وقال أحد المهاجرين لمنظمة العفو الدولية لاحقا “كان هناك شخص في جناحي قاموا بضربه بمسدّس على رأسه أغمي عليه وبدأ يرتجف”. وأضاف: “لم يطلبوا سيارة إسعاف لنقله في تلك الليلة، كان لا يزال يتنفّس ولكنه لم يكن قادرا على الكلام. لا أعرف ماذا حدث له. لا أعلم ماذا فعل”. 

في الأسابيع التي تلت ذلك، حاول كاندي الابتعاد عن المشاكل وتمسّك بإشاعة مفعمة بالأمل سمعها في أرجاء السجن ومفادها أن الحرّاس كانوا يعتزمون إطلاق سراح المهاجرين الموجودين بزنزانته بمناسبة شهر رمضان، وذلك في غضون تسعة أسابيع. سجّل لوثر الحماس الذي انتشر في السجن في دفتر يوميات كان يحتفظ به. وكتب “الرب خارق.. أتمنى أن تستمرّ رحمته في حماية جميع المهاجرين في جميع أنحاء العالم وخاصة في ليبيا”.

مدخل في مذكرات سجن توكام مارتن لوثر. ترجمة: "الخميس 25-03-2021 سيتم الإفراج عن جميع المهاجرين استعدادا لشهر رمضان بشكل أفضل. الرب خارق ورحمته تستمر في حماية جميع المهاجرين في جميع أنحاء العالم وخاصة القادمين من ليبيا على وجه الخصوص." (The Outlaw Ocean Project ©)
مدخل في مذكرات السجين توكام مارتن لوثر. ترجمة: "الخميس 25-03-2021 سيتم الإفراج عن جميع المهاجرين استعدادا لشهر رمضان بشكل أفضل. الرب خارق ورحمته تستمر في حماية جميع المهاجرين في جميع أنحاء العالم وخاصة القادمين من ليبيا على وجه الخصوص." (The Outlaw Ocean Project ©)

 

أصبح العالم يتحدّث عن أزمة المهاجرين خلال سنة 2010، عندما بدأت المنظمات الإنسانية في ملاحظة ارتفاع عدد الأشخاص المتدفقين إلى أوروبا. كان المهاجرون يفرّون من الحروب في الشرق الأوسط ومن حركات التمرّد في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فضلا عن آثار تغيّر المناخ كالجفاف وفشل المحاصيل والتصحّر السريع. في الخمسين عاما المقبلة، يتوقّع البنك الدولي أن يتسبّب الاحتباس الحراري في تشريد مائة وخمسين مليون شخص آخرين من نصف الكرة الجنوبي ممّا سيزيد من الهجرة نحو أوروبا. في سنة 2015 فقط، قدم مليون مهاجر إلى أوروبا من الشرق الأوسط وأفريقيا. مر طريق مشهور عبر ليبيا، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا – مسافة تقل عن مائتي ميل.

ولطالما ضغطت أوروبا على ليبيا للمساعدة في كبح مثل هذه الهجرة. كان الزعيم الليبي معمر القذافي قد اعتنق ذات مرة الوحدة الإفريقية وشجع الأفارقة جنوب الصحراء على العمل في حقول النفط في البلاد. لكنه وقع في عام 2008 “معاهدة صداقة” مع رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني ، تلزمه بتنفيذ ضوابط صارمة. استخدم القذافي هذا أحيانًا كورقة مساومة: فقد هدد، في عام 2010، إذا كان الاتحاد الأوروبي لن يرسل له أكثر من ستة مليارات دولار سنويًا كمساعدات، سيحولها إلى “أوروبا السوداء”. في عام 2011، أطيح بالقذافي وقتل في تمرد اندلع بسبب الربيع العربي وبدعم من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. بعد ذلك ، انزلقت ليبيا في حالة من الفوضى. اليوم ، تتنافس حكومتان على الشرعية: حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، وإدارة مقرها في طبرق وتدعمها روسيا والجيش الوطني الليبي المعلن من جانب واحد. كلاهما يعتمد على تحالفات متغيرة مع الميليشيات المسلحة التي لها ولاءات قبلية وتسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد. اكتظت الشواطئ النائية في ليبيا، التي أصبحت غير خاضعة للرقابة على نحو متزايد بالمهاجرين المتجهين إلى أوروبا.

المأساة الكبرى الأولى وقعت سنة 2013 عندما اشتعل قارب يقلّ إريتريين وغرق في البحر الأبيض المتوسط، على بعد أقلّ من ميل واحد من إيطاليا، ممّا أسفر عن مقتل 360 شخصا. كانت الغريزة الأولى السائدة في أوروبا هي التعاطف. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت “نستطيع فعل ذلك” متعهدة بوضع سياسات هجرة ليبرالية، وهو الموقف الذي جعلها تكسب شخصية العام لمجلّة تايم سنة 2015. لا تبتعد شواطئ إيطاليا عن شمال إفريقيا إلا بضع مئات الأميال. في بداية سنة 2014، أصبح ماتيو رينزي، ابن التاسعة والثلاثين عاما، أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد. كان رينزي ليبراليا وسطيا يتّسم بطلاقة اللسان على غرار بيل كلينتون، وكان من المتوقع أن يهيمن على سياسة البلاد خلال العقد المقبل. التزم، مثل ميركل، باستقبال المهاجرين قائلا: “أوروبا عندما تدير ظهرها عن الجثث الموجودة في البحر لا تستحق أن تطلق على نفسها صفة حضارية”. وقف رينزي وراء برنامج بحث وإنقاذ طموح أُطلق عليه “عملية مار نوسترام”، أو “بحرنا”، والذي ضمن المرور الآمن لنحو 150 ألف مهاجر وقدّم لهم الدعم القانوني لمساعدتهم في طلبات اللجوء. وبحسب المفوضة الأوروبية السابقة للشؤون الإنسانية إيما بونينو، فقد طلبت حكومة رينزي سنة 2014 استقبال كلّ مهاجر قادم من ليبيا. 

ومع ارتفاع عدد المهاجرين، تحوّلت ازدواجية المشاعر تجاه المهاجرين في أوروبا إلى رفض لهم.احتاج المهاجرون إلى رعاية طبية ووظائف وتعليم ، مما أدى إلى إجهاد الموارد. يقول خبير الهجرة في المعهد الفرنسي للدراسات المتقدمة جيمس هوليفيلد “إنهم في معضلة هائلة. يتعيّن على الدول أن تجد طريقة لتأمين حدودها دون تدمير جوهر الدولة الليبرالية”. بدأت الأحزاب السياسية والقومية مثل حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية في استغلال الوضع لتعزيز كراهية الأجانب. وكانت جملة من الاعتداءات طالت شابات بكولونيا في ألمانيا سنة 2015 على أيدي رجال قدموا من شمال إفريقيا، إضافة إلى هجوم على سوق لعيد الميلاد في برلين عام 2016 أسفر عن مقتل 12 شخصا وخطّط له طالب لجوء قادم من تونس. أدّت هذه الأحداث الى المزيد من تأجيج المخاوف لدى الأوروبيين. وافقت ميركل، تحت الضغط، في نهاية المطاف على احتواء المهاجرين، وأيدت حظر البرقع “النقاب”.

كانت عملية “مار نوسترام” التي قد دعمها رينزي قدّ كلّفت حوالي مائة وخمسة عشر مليون يورو، وهي تكلفة لم تستطع إيطاليا، التي كانت تكافح لتفادي ركودها الثالث خلال ست سنوات، تحمّلها. وتعثّرت جهود نقل مهاجرين من إيطاليا واليونان.لم تقبل بولندا والمجر ، وكلاهما يديرهما زعماء يمين متطرف، أي مهاجرين على الإطلاق. في حين تحدّث مسؤولون نمساويون عن بناء جدار على حدودها مع إيطاليا. سخر سياسيو اليمين المتطرّف في إيطاليا من رينزي وندّدوا به وشهدوا ارتفاعا في نسب استطلاعات الرأي. استقال رينزي في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2016 وقد تراجع حزبه في نهاية المطاف عن السياسات التي اتخذها. وقد تراجع بدوره عن الكرم الذي أبداه في البداية حيث قال “نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا من الشعور بالذنب. ليس لدينا واجب أخلاقي للترحيب بمن هم أسوأ حالا منا في إيطاليا”.

"نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا من الشعور بالذنب"، قال ماتيو رينزي. "ليس لدينا واجب أخلاقي للترحيب في إيطاليا بالأشخاص الذين هم أسوأ حالًا منا."

خلال السنوات التالية، شرعت أوروبا في اتباع نهج مختلف بقيادة أحد المقرّبين من رينزي يدعى ماركو مينيتي والذي أصبح وزير داخلية إيطاليا. كان مينيتي، وهو نجل ضابط سابق، صريحا بشأن ما رآه خاطئا في سياسة رينزي. وقد قال: “لم نردّ على شعورين كانا قويّين للغاية.. الغضب والخوف”. بناء على إلحاحه، أنهت إيطاليا التزامها بإجراء عمليات البحث والإنقاذ على بعد ثلاثين ميلا من شواطئها. بدأ الاتحاد الأوروبي في رفض القوارب الإنسانية التي تحمل مهاجرين تم إنقاذهم من النزول في موانئه. حتى أن إيطاليا قامت بمقاضاة قادة هذه القوارب بتهمة المساعدة في الاتجار بالبشر. وسرعان ما أصبح مينيتي يُلقّب بـ”وزير الخوف”.

سنة 2015، ساعد مينيتي الاتحاد الأوروبي على إحداث برنامج أُطلق عليه “الصندوق الائتماني الأوروبي للطوارئ من أجل إفريقيا” والذي أنفق منذ ذلك الحين ما يقارب 6 مليارات دولار. ويصوّر مؤيدو الصندوق هذا البرنامج على أنه يسهّل التنمية، مشيرين إلى أنه ساهم في جهود الحدّ من انتشار كوفيد 19 في السودان والتدريب على الأعمال الخضراء في غانا. ولكن في الواقع، يتضمّن الكثير من عمل الصندوق الضغط على الدول الأفريقية لتبنّي قيود على الهجرة أكثر صرامة ومن ثمّ تمويل حماية الحدود والجماعات العسكرية التي تطبّقها لاحتجاز المهاجرين الأفارقة قبل وصولهم إلى أوروبا. ينقل البرنامج بشكل فعّال حدود أوروبا إلى الحافة الشمالية لإفريقيا ويستعين بمصادر خارجية لتنفيذ هذه السياسات. في 2018، سأل أعضاء من البرلمان الأوروبي المفوضية الأوروبية عن “قائمات التسوق” المزعومة التي أرسلها مسؤولون من النيجر للمطالبة بهدايا من السيارات والطائرات والمروحيات مقابل دعمهم لدفع السياسات المناهضة للهجرة. 

أموال الصندوق صُرفت أيضا على الأجهزة القمعية للدول. في أثيوبيا، سمح البرنامج للاتحاد الأوروبي بمشاركة البيانات الشخصية للمواطنين الإثيوبيين مع جهاز المخابرات في البلاد والذي له تاريخ في اعتقال المتظاهرين ومعاملتهم بقسوة. في السودان، تمّ استخدام الأموال لإنشاء مركز استخبارات للشرطة السريّة في البلاد والتي استخدمت أيضا الموارد لقمع المظاهرات المحلّية. يتم صرف الأموال وفقا لتقدير الفرع التنفيذي للاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، ولا يخضع للتدقيق من قبل البرلمان. (يقول متحدث باسم الصندوق الاستئماني “تهدف برامجنا إلى إنقاذ الأرواح وحماية المحتاجين ومكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين”).

كان مينيتي يتطلّع إلى ليبيا – التي كانت آنذاك دولة فاشلة – لتكون الشريك الأساسي للاتحاد الأوروبي في الحدّ من الهجرة إلى أوروبا. في 2017، سافر مينيتي إلى طرابلس لعقد صفقات مع حكومة البلاد في ذلك الوقت وأقوى ميليشياتها. وقّع الاتحاد الأوروبي وإيطاليا وليبيا مذكرة تفاهم توضّح التعاون و”تؤكد مجدّدا التصميم الحازم على التعاون في تحديد حلول عاجلة لقضية المهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون ليبيا للوصول إلى أوروبا عن طريق البحر”. في السنوات الست الماضية، خصّص الصندوق الاستئماني نصف مليار دولار لدعم الهجوم الليبي على الهجرة. يعتبر وزير العدل الليبي السابق المرغني في نفس السياق أن الهدف من البرنامج واضح ويقول: “جعلوا من ليبيا الشخص السيء. جعلوا من ليبيا قناعا لسياساتهم بينما يقول البشر الطيبون في أوروبا إنهم يقدمون الأموال للمساعدة في جعل هذا النظام الجهنمي أكثر أمانا”. 

يقول مينيتي إن “الخوف الأوروبي من الهجرة غير المقيّدة هو شعور مشروع ويجب على الديمقراطية أن تستمع إليه”. أدت سياساته إلى انخفاض حادّ في عدد المهاجرين. في النصف الأول من العام الحالي 2021، وصل أقلّ من 21 ألفا إلى أوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط. وقال مينيتي للصحافة سنة 2017: “ما فعلته إيطاليا في ليبيا هو نموذج للتعامل مع تدفقات المهاجرين دون إقامة حدود أو حواجز من الأسلاك الشائكة”. (غادر مينيتي منذ ذلك الحين الحكومة وأصبح يترأس حاليا مؤسسة “ميد أور”، وهي مركز تفكير متخصص في الصناعات الدفاعية، ولم يرد على طلبات التعليق على هذا التقرير). أشاد الجناح اليميني الإيطالي، الذي ساهم في الإطاحة برينزي، بعمل مينيتي. وقال زعيم رابطة الشمال القومية الإيطالية ماتيو سالفيني: “عندما اقترحنا مثل هذه الإجراءات تمّ تصنيفنا على أننا عنصريون”. وأضاف “الآن، أخيرا، يبدو أن الجميع يفهم أننا كنا على حق”. 

نشأ أليو كاندي في مزرعة بالقرب من قرية سينتشان ديمبا غيرا النائية في غينيا بيساو. لم يكن يوجد بالقرية استقبال خلوي أو طرق ممهدة أو سباكة أو كهرباء. كان يعيش في منزل من الطين نصفه أصفر ونصفه الآخر أزرق مع زوجته هافا وابنيه الصغيرين. لطالما كان كاندي يشعر بالضجر في القرية، وكان يستمع إلى موسيقيين أجانب ويتابع نوادي كرة القدم الأوروبية. كان يتحدّث الانكليزية والفرنسية ويعلّم نفسه البرتغالية على أمل أن يعيش يوما ما في البرتغال. وقال لي أحد إخوته ويدعى جاكاريا: “كان أليو فتى محبوبا جدّا ولم يواجه أي مشكلة في حياته”. وأضاف: “كان يعمل بجهد والناس يحترمونه”.

المنزل الذي كان يعيش فيه أليو كاندي مع زوجته وأطفاله في غينيا بيساو. (Ricci Shryock/The Outlaw Ocean Project,26/05/2021 ©)

كانت مزرعة كاندي تنتج الكسافا والمانجو والكاجو وهي منتوجات تمثل 90 في المائة من صادرات البلاد. ولكن بدأت طبيعة الطقس في التغيّر على الأرجح كنتيجة للتغيّرات المناخية. وقال جاكاريا: لم نعد نشعر بالبرد خلال موسم البرد، والحرارة تأتي في وقت أبكر ممّا ينبغي. لم يعد من الممكن الولوج إلى المزرعة إلا بزورق معظم أيام السنة، وأصبحت فترات الجفاف تستمرّ ضعف المدة التي كانت تستغرقها في الجيل السابق. كانت بقراته الأربع النحيلة تنتج كمية قليلة من الحليب. وارتفعت كذلك أعداد البعوض الذي ينشر أمراضا. عندما أصيب أحد أبناء كاندي بالملاريا، استغرقت رحلة نقله إلى المستشفى يوما وكاد أن يفقد حياته.

كاندي، وهو مسلم متديّن، كان قلقا من فشله أمام الله في إعالة أسرته. وأخبرني بوبو، أحد إخوة كاندي أن هذا الأخير: كان يشعر بالذنب والحسد“. كان جاكاريا قد هاجر إلى إسبانيا، ودنباس، شقيق آخر، إلى إيطاليا، وكان كلاهما يرسلان أموالا إلى عائلتهما وصورا لمطاعم فاخرة. وقال لي سامبا، والد كاندي:كلّ من يسافر إلى الخارج يجلب ثروة إلى عائلته“. كانت زوجة كاندي حاملا في شهرها الثامن، لكن عائلته شجّعته على السفر إلى أوروبا ووعدته برعاية أطفاله. وقالت والدته أميناتا: ذهب كلّ أبناء جيله إلى الخارج ونجحوا.. فلم لا يذهب هو؟ “. صبيحة يوم 13 سبتمبر/ أيلول من سنة 2019، انطلق كاندي إلى أوروبا حاملا معه القرآن وزوجين من السراويل وقميصا ومذكرات جلدية و600 يورو. وقال كاندي في ذلك الصباح لزوجته:لا أعلم كم سيستغرق هذا الأمر من الوقت.. لكني أحبك وسوف أعود“.

زوجة وأطفال أليو كاندي.

والد ووالدة كاندي وهما يحملان صورة عائلية بمنزلهما.

صورة نجل أليو كاندي، بوبكر، وهو يركل كرة قدم بقريتهم في غينيا بيساو.

المنزل الذي كان يعيش فيه أليو كاندي مع زوجته وأطفاله في غينيا بيساو. (Ricci Shryock/The Outlaw Ocean Project,26/05/2021 ©)

 

شق كاندي طريقه عبر وسط إفريقيا، متوقفا أو متخفيا في الحافلات والسيارات حتى وصل إلى أغاديس بالنيجر، التي كانت تسمى ذات مرة بوابة الصحراء. تاريخيا كانت حدود دول وسط إفريقيا مفتوحة كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي. ولكن، في سنة 2016، ساعد مسؤولو الاتحاد الأوروبي، من خلال الصندوق الاستئماني، في وضع قانون جديد في النيجر، يسمى القانون 36، والذي حوّل اقتصاد العبور المزدهر إلى اقتصاد إجرامي، وموّلوا السلطات لمراقبة القانون الجديد بقوة، وبين عشيّة وضحاها، أمسى سائقو الحافلات والمرشدون، الذين نقلوا مهاجرين إلى الشمال لسنوات عديدة على طول طريق تصطفّ على جانبيه آبار المياه، مصنّفين كتجار بشر ويخضعون لعقوبات بالسجن لمدة 30 عاما. واضطرّ المهاجرون إلى التفكير في اتباع طرق أكثر خطورة. وفي 2019، عبر كاندي بمعيّة ستّة أشخاص آخرين الصحراء، وكانوا ينامون أحيانا على الرمال على جانب الطريق. وقال كاندي لشقيقه جاكاريا عبر الهاتف: “الحرارة والغبار، الوضع فظيع هنا”. تسلّل عبر جزء من الجزائر خاضع لسيطرة قطاع الطرق. وقال لأسرته: “سوف يعتقلوني ويضربوني حتى يتمّ إطلاق سراحي.. هذا كلّ ما يوجد هناك”. 

وصل إلى المغرب في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2020، حاول دفع ثمن عبور قارب إلى إسبانيا وعلم أن السعر يبلغ 3000 يورو. حثّ جاكاريا شقيقه على العودة إلا أن كاندي رفض هذه الفكرة قائلا: “لقد عملت بجدّ عندما كنت في أوروبا وأرسلت المال إلى العائلة. الآن حان دوري وعندما أصل إلى هناك يمكنك العودة إلى المزرعة والاستراحة وسأقوم أنا بالعمل”. وكان قد وصل إلى مسامعه أنه بإمكانه حجز رحلة إلى إيطاليا على متن قارب بسعر أرخص. في ديسمبر/كانون الأوّل 2020، وصل إلى طرابلس واستأجر غرفة في قرقاش وهي حيّ فقير للمهاجرين. كان عمّه الأكبر ديمبا بالدي، وهو خيّاط سابق يبلغ من العمر 40 عاما، يقيم في ليبيا منذ سنوات متهرّبا من السلطات. وجد بالدي لكاندي عملا في طلاء المنازل وحثّه، دون أن ينجح في ذلك، على التخلّي عن خطّته لعبور البحر الأبيض المتوسط. وقال بالدي: “أخبرته أن ذلك هو طريق الموت”.

في شهر مايو/أيار 2021، سافرت إلى طرابلس للتحقيق في نظام احتجاز المهاجرين هناك. كنت قد أحدثت مؤخرا منظمة غير ربحية تسمى “ذي آوتلو أوشين بروجكت” – (The Outlaw Ocean Project)، والتي تقدم تقارير حول حقوق الإنسان والقضايا البيئية في البحر، وقد أحضرت معي فريقا من الباحثين من بينهم مصوّر ومخرج. في طرابلس، تنتشر المكاتب والفنادق والمباني السكنية والمدارس على الساحل، نصف مبنية ومهجورة. كان هناك رجال مسلّحون يرتدون أزياء ويقفون عند كلّ تقاطع. لا يُسمح تقريبا بدخول أي صحفي غربي إلى ليبيا، ولكن بمساعدة مجموعة مساعدة دوليّة، حصلنا على تأشيرات دخول. بعد وصولنا بفترة قصيرة، أعطيت فريقي أجهزة تتبّع في حالة فقدان أي منهم وشجّعتهم على وضع نسخ من جوازات سفرهم داخل أحذيتهم. تمّ وضعنا في فندق بالقرب من وسط المدينة وكلّف فريق أمني متواضع بحمايتنا.

تسمية خفر السواحل الليبي تجعل هذا الجهاز يبدو كمنظمة عسكرية رسمية. ولكن في الواقع ليس لديه قيادة موحّدة. يتكون خفر السواحل من مجموعة متنوعة من الدوريات المحلية التي اتهمتها الأمم المتحدة منذ سنوات بأن لها صلات مع الميليشيات. (يطلق عليه العاملون في المجال الإنساني أحيانا “ما يسمى بـ خفر السواحل الليبي”). صرّح مينيتي خلال الأيام الأولى للمشروع قائلا: “عندما قلنا إنه يتعيّن علينا إعادة إطلاق خفر السواحل الليبي بدا الأمر وكأنه حلم يقظة”. ومنذ ذلك الحين، أنفق الصندوق الاستئماني لإفريقيا التابع للاتحاد الأوروبي عشرات الملايين من الدولارات لتحويل خفر السواحل إلى قوة هائلة بالوكالة.

سنة 2018، ساعدت الحكومة الإيطالية، بمباركة الاتحاد الأوروبي، خفر السواحل في الحصول على موافقة من الأمم المتحدة لتوسيع نطاق سلطته القضائية لما يقارب 100 ميل قبالة الساحل الليبي – بعيدا في المياه الدولية، وفي منتصف الطريق إلى الشواطئ الإيطالية. قدّم له الاتحاد الأوروبي ستة زوارق سريعة من الألياف الزجاجية، وثلاثين سيارة تويوتا لاند كروزر، وعشر حاويات شحن لاستخدامها كمكاتب، وأجهزة راديو، وهواتف فضائية، وطوافات قابلة للنفخ، وخمسمائة زي موحد. ويتكفل الاتحاد الأوروبي بتكلفة مركز قيادة الوكالة ويوفر التدريب لضباطها. في احتفال في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، كشف مسؤولو الاتحاد الأوروبي وقادة ليبيون النقاب عن مركبين أبيضين مصنوعين من الفولاذ والألياف الزجاجية والكيفلار، تم بنائهما في إيطاليا وتطويرهما في تونس بأموال من الصندوق الاستئماني. وقال سفير الاتحاد الأوروبي الحالي في ليبيا خوسيه ساباديل في بيان صحفي: “تجديد هاتين السفينتين كان مثالا رئيسيا على التعاون البنّاء بين الاتحاد الأوروبي والبلد العضو في الاتحاد إيطاليا وليبيا”.

ولعل المساعدة الأكثر قيمة من وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، فرونتكس – التي تأسست عام 2004- جزئيًا لحراسة حدود أوروبا مع روسيا. في عام 2015، بدأت فرونتكس في قيادة ما أسمته “جهد منهجي للقبض” على المهاجرين الذين يعبرون البحر. اليوم، لديها ميزانية تزيد عن نصف مليار يورو وخدمتها النظامية الخاصة، والتي تمكنها من إطلاقها في عمليات خارج حدود الاتحاد الأوروبي. تحافظ الوكالة على مراقبة شبه مستمرة للبحر الأبيض المتوسط من خلال طائرات بدون طيار وطائرات مستأجرة خاصة. عندما يكتشف قارب مهاجرين، فإنه يرسل الصور ومعلومات الموقع إلى الوكالات الحكومية المحلية والشركاء الآخرين في المنطقة – ظاهريًا للمساعدة في عمليات الإنقاذ – لكنه لا يُبلغ السفن الإنسانية.

الاتحاد الأوروبي أعطى خفر السواحل الليبي السفن والتدريب ومركز قيادة وسلطة قضائية موسعة للقبض على المهاجرين.

قال لي متحدث باسم فرونتكس إن الوكالة “لم تشارك قطّ في أي تعاون مباشر مع السلطات الليبية”. لكن تحقيقا أجراه تحالف من المنظمات الإخبارية الأوروبية، من بينها “لايت هاوس ريبورت” و”دير سبيغل” و”ليبيراسيون” و”أي إر دي”، وثق 20 حالة تم فيها اعتراض قوراب مهاجرين من قبل خفر السواحل مباشرة بعد مراقبتهم من قبل فرونتكس. وجد التحقيق أدلة على أن فرونتكس ترسل أحيانا مواقع قوارب المهاجرين مباشرة إلى خفر السواحل. في تبادل للرسائل على “واتساب” في مايو/ أيار 2021 على سبيل المثال، كتبت فرونتكس إلى شخص يعرّف نفسه بأنه “قائد في خفر السواحل الليبي”، قائلة، “صباح الخير يا سيدي – لدينا (احداثيات) قارب”. الناس يملئون الماء. الرجاء الإقرار بتسلّم هذه الرسالة”. أرسل لي مسؤولو فرونتكس مؤخرًا نتائج طلب فتح السجلات الذي قدمته، والتي تشير إلى أنه في الفترة الممتدة بين 1 و5 فبراير/ شباط، في الوقت الذي كان فيه كاندي في البحر تقريبا، تبادلت الوكالة سبعة وثلاثين رسالة بريد إلكتروني مع خفر السواحل الليبي. (رفضت فرونتكس الإفصاح عن محتوى رسائل البريد الإلكتروني، قائلة إنها ستشكل خطرا على (سلامة المهاجرين). يقول مسؤول كبير في فرونتكس، طلب عدم ذكر اسمه خوفا من أن يتم الانتقام منه، أن الوكالة ترسل أيضا لقطات المراقبة إلى خفر السواحل الإيطالي ومركز تنسيق عمليات الإنقاذ الإيطالي، والتي يعتقد المسؤول إنها تخطر خفر السواحل الليبي. (لم تستجب الوكالات الايطاليه لطلبات التعليق).

يقول خبراء قانونيون إن هذه الإجراءات تنتهك القوانين الدولية ضد الإعادة القسرية، أو إعادة المهاجرين إلى أماكن غير آمنة. ويعتبر المسؤول بفرونتكس أنه حتى هذه الطريقة “غير المباشرة” لم تعزل الوكالة عن المسؤولية قائلا “أنت تقدم تلك المعلومات. أنت لا تنفذ الإجراء، لكن المعلومات هي التي تتسبّب في الإعادة القسرية “. وكان المسؤول قد حث رؤساءه مرارا على التوقف عن المساعدة في جهود إعادة المهاجرين إلى ليبيا. ويقول المسؤول في هذا الصدد “لا يهم ما تقوله لهم. لم يكونوا مستعدين للفهم”. (صرّح المتحدث باسم فرونتكس أنه “في أي عملية بحث وإنقاذ محتملة، تكون أولوية فرونتكس هي إنقاذ الأرواح”).

في يونيو 2021، استجابت طائرة تابعة لمجموعة Sea-Watch للمساعدة لإشارات استغاثة من قارب مهاجرين.

من الطائرة، سجل ممثلو Sea-Watch سفينة تابعة لخفر السواحل الليبي تحاول اعتراض المهاجرين ويظهر فيها خفر السواحل يطلق النار مرتين على المهاجرين وأيضًا محاولة الاصطدام بقارب المهاجرين وتعطيل المحرك برمي حبل. (مصدر: Sea Watch، البحر الأبيض المتوسط، 30 يونيو 2021).

بعد مطاردة دامت ساعة ونصف، عاد خفر السواحل ووصل المهاجرون إلى إيطاليا. (لم يستجب خفر السواحل لطلبات التعليق).

بمجرد حصول خفر السواحل على الاحداثيات تهرع إلى القوارب قبل وصول سفن الإنقاذ، في بعض الأحيان، يطلق النار على المهاجرين أو يوجه طلقات تحذيرية  لسفن الإنقاذ الإنسانية. وفقا للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، اعترض خفر السواحل وسلطات ليبية أخرى أكثر من 80 ألف مهاجر في الفترة من 2016 إلى 2021. في عام 2017، استجابت سفينة لمنظمة “سي ووتش” الإنسانية لنداءات استغاثة من قارب مهاجرين يغرق. عندما أنزلت “سي ووتش” زورقين مطاطين لتنفيذ عمليات الإنقاذ وصل قارب لخفر السواحل الليبي يسمي “رأس جدير”  بسرعة عالية مما أدى إلى انقلاب الزورقين بسبب الموج الذي أحدثه. ثم قام ضباط خفر السواحل بإخراج المهاجرين من الماء وضربهم قبل أن يتمكنوا من ركوب قارب المنظمة غير الحكومية. قال يوهانس باير، رئيس مهمة “سي ووتش” في ذلك اليوم: “كان لدينا شعور أن خفر السواحل مهتم فقط بسحب أكبر عدد ممكن من الأشخاص إلى ليبيا دون الاهتمام بوجود أناس يغرقون”. (قفز أحد المهاجرين من القارب وتشبّث بـقارب “رأس جدير” الذي أسرع بعيدا وجرّه عبر الماء. وقد توفي ما لا يقلّ عن عشرين شخصا أثناء عملية الاعتراض أحدهم طفل يبلغ من العمر سنتين. قال مهاجر لمنظمة العفو الدولية إنه في فبراير/ شباط 2021، ألحقت سفينة تابعة لخفر السواحل أضراراً بقارب مهاجرين بينما كان الضباط يصورون بهواتفهم المحمولة؛ غرق خمسة اشخاص.)

يبدو أن خفر السواحل يعمل في ظلّ الإفلات من العقاب. في أكتوبر 2020، أضيف عبد الرحمن ميلاد، قائد وحدة خفر السواحل في الزاوية، إلى قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي واعتقلته السلطات الليبية بتهمة “التورّط المباشر في غرق قوارب المهاجرين باستخدام الأسلحة النارية” وحماية المهرّبين والتعاون معهم. سبق لميلاد أن حضر في اجتماعات مع السلطات الإيطالية في روما وصقلية سنة 2017 لطلب مزيد من الأموال من الصندوق الاستئماني. تم إطلاق سراحه في شهر أبريل/نيسان 2021 بحجة نقص الأدلة. غالبًا ما أشار خفر السواحل – الذي لم يستجب لطلبات التعليق على هذا المقال – إلى نجاحه في الحد من الهجرة إلى أوروبا، وجادل بأن المنظمات الإنسانية تعرقل جهودها لمكافحة الاتجار بالبشر. قال لوسائل إعلام إيطالية في عام 2017 “لماذا تعلن المنظمات غير الحكومية الحرب علينا؟ يجب أن يتعاونوا معنا بدلا من ذلك إذا كانوا يريدون فعلاً العمل لصالح المهاجرين”. يقول المتحدث باسم الصندوق الاستئماني إن عمل الاتحاد الاوربي مع خفر السواحل يهدف إلى “إنقاذ حياة أولئك الذين يقومون برحلات خطيرة عن طريق البحر أو البر”.

في شهر مايو/أيار 2021، أمضى مصور فيديو من فريقي، ويدعى “إد أو”، عدة أسابيع على متن سفينة أطباء بلا حدود لتصوير محاولات إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط. تحدد المنظمة زوارق المهاجرين بمساعدة جهاز الرادار ومتطوّعين. في بعض الأحيان، كانوا يرون طائرة فرونتكس دون طيار – من طراز آي إي آي هيرون قادرة على العمل بشكل مستمرّ لمدّة تصل إلى 45 ساعة – تحلّق في السماء. كانت سفينتهم حريصة على إجراء عمليات الإنقاذ في المياه الدولية فقط، ولكن تهديدات خفر السواحل صدرت عبر الراديو. قال أحد الضباط: “ابتعدوا عن الهدف” “لا تدخلوا المياه الليبية وإلا فسأتعامل معكم وألجأ إلى إجراءات أخرى”. في بعض الأحيان، بعد عملية انقاذ ناجحة تحدث عدد من المهاجرين السودانيين عما شاهدوه في ليبيا. قال أحدهم إنه تعرّض للضرب والتعذيب على يد خفر السواحل عندما تمّ القبض عليه في رحلة سابقة. وشاهد آخر صديقين له وهما يقتلان بالرصاص في مركز احتجاز ليبي. أحدهم كان يرتدي قميصا مصنوعا منزليا كُتب عليه “تبا لليبيا”.

حوالي العاشرة مساء في 3 فبراير /شباط 2021، اقتاد مهرّب كاندي ومائة وثلاثين آخرين إلى الساحل الليبي وجعلهم يصعدون على متن زورق مطاطي قابل للنفخ. بعض المهاجرين -متحمسين للمغادرة – بدأوا في الغناء. بعد ساعتين تقريبا داخل المياه الدولية. شعر كاندي، الذي كان يجلس في جانب من الزورق، بالأمل وأخبر اخريين أنه كان يفكر في اصطحاب زوجته وأطفاله.

كان المهرّب قد كلّف 3 مهاجرين بمسؤوليات مختلفة. حيث قام بتعيين شخص يتولى توجيه مسار الرحلة باستخدام بوصلة، إلى جانب “قبطان” يدير المحرّك ويتعامل مع الهاتف الذي يعمل بالأقمار الصناعية، وبمجرّد أن يكونوا بعيدين بما يكفي عن ليبيا، يجب عليه الاتصال بـ”آلارم فون”، وهي مجموعة إنسانية، ويطلبون أن يتمّ إنقاذهم. أما “القائد” فيحافظ على النظام ويتأكد من عدم لمس أحد للقابس الذي إذا تمّ سحبه سيؤدي إلى غرق الزورق. ولكن سرعان ما أصبح البحر قاسيا، مما تسبب في مرض الجميع تقريبًا وتحوّلت المياه المتراكمة عند أقدامهم إلى حساء من القيء والبراز وأغلفة الحلوى وفتات الرغيف الفرنسي. حاول العديد من المهاجرين اخراج المياه من الزورق باستخدام زجاجات مياه بلاستيكية فارغة مقطوعة إلى نصفين. اندلع شجار، وهدّد أحدهم بقطع الزورق بسكين قبل أن يتم إخضاعه. يذكر محمد دافيد سوماهورو، الذي كان صديق لكاندي في الزورق، “بدأ الكلّ يدعو إلهه”. ويضيف: “أحدهم كان يدعو الله وآخر يدعو يسوع، وهذا يدعو هذا وذلك ذاك. بدأت النساء في البكاء. وبمجرّد أن رأى الأطفال الناس في حالة من الذعر شرعوا في البكاء بدورهم”. 

هدأت المياه عند الفجر. وقرر المهاجرون أنهم بعيدون بما يكفي عن ليبيا فطلبوا المساعدة. أبلغهم متطوع في “آلارم فون” أن هناك سفينة تجارية غير بعيدة، هتف المهاجرون “بوسا فري بوسا فري” مستخدمين كلمة فولانية تعني النصر. التفت كاندي إلى سوماهورو وعيناه تشعّان قائلا: “إن شاء الله سننجح في الوصول إلى إيطاليا!”. ولكن عندما وصلت السفينة التجارية أعلمهم ربّانها أنه لا يمتلك قوارب نجاة وابتعد مسرعا.

حتى الان كان زورق كاندي على بعد سبعين ميلا من طرابلس، خارج المياه الليبية ولكنه لا يزال ضمن النطاق القضائي الموسّع الذي ساعدت أوروبا في هندسته لخفر السواحل. حوالي الساعة الخامسة مساء من يوم 4 فبراير/ شباط، لاحظ كاندي وبقية المهاجرين وجود طائرة فوقهم حلّقت لمدة 15 دقيقة قبل أن تبتعد. تظهر بيانات من “ADS-EXCHANGE”، وهي منظمة تتعقّب حركة الطيران، أن الطائرة المسماة “Eagle 1” كانت من طراز “Beech King Air 350″، وهي طائرة مراقبة بيضاء استأجرتها فرونتكس. (رفضت الوكالة التعليق على دورها الذي لعبته في الأسر). بعد حوالي 3 ساعات، ظهرت سفينة في الأفق. قال لي سوماهورو: “كلما اقتربت السفينة، كلما كان ذلك أوضح – ورأينا الخطوط السوداء والخضراء للعلم. بدأ الجميع في البكاء ومسك رؤوسهم قائلين “تبا إنها ليبيا”. 

كان القارب، وهو سفينة دورية فيتوريا بي 350 مصنوعة من الفولاذ والألياف الزجاجية والكيفلار، أحد المراكب التي كشف الاتحاد الأوروبي النقاب عنها في أكتوبر. قامت السفينة بالاصطدام بزورق المهاجرين ثلاث مرّات ثم أمر ضباط خفر السواحل المهاجرين بالصعود على متنه. صرخ الضباط “تحركوا!”. ضرب ضابط العديد من المهاجرين بعقب بندقيته. وجلدهم آخر بواسطة حبل. أعيد المهاجرون إلى البرّ، وتمّ وضعهم في حافلات وشاحنات، واقتادوهم إلى مركز “المباني”.

عندما قدمت إلى ليبيا، وعدني مسؤولون حكوميون بأنه سيُسمح لي بالتجول في “المباني”، ولكن بعد عدة أيام من المحاولات، اتضح أن هذا لن يحدث. في وقت متأخر من بعد ظهر أحد الأيام، ذهبت مع فريقي إلى زقاق غير ظاهر على بعد نصف ميل من مركز الاحتجاز وأطلقنا طائرة بدون طيار حلّقت فوق فناء “المباني” مرتفعة بشكل كاف حتى لا يلاحظها الحرّاس. على الشاشة رأيت الحرّاس يستعدّون لإدخال المهاجرين إلى زنازينهم من الفناء. كان هناك حوالي 65 محتجزا يجلسون في الزاوية لا يحرّكون ساكنا، رؤوسهم إلى أسفل، أرجلهم مطوية، ويد كلّ رجل تلمس ظهر الرجل الذي أمامه. عندما نظر مهاجر إلى جانبه، ضربه أحد الحرّاس رأسه.

طائرة بدون طيار تلتقط مشهدًا عن قرب يجلس فيه حوالي 65 مهاجرًا في الفناء ورؤوسهم لأسفل ويضرب أحد الحراس أحد المهاجرين على رأسه عندما ينظر إلى الجانب. (Pierre Kattar/The Outlaw Ocean Project ©)

بموجب القانون الليبي، يمكن احتجاز الأجانب غير المصرح لهم – بمن فيهم المهاجرون لأسباب اقتصادية وطالبو اللجوء وضحايا الاتجار غير المشروع – إلى أجل غير مسمى، دون السماح لهم بالاتصال بمحام. يوجد حاليًا حوالي خمسة عشر مركز احتجاز معترف به في البلاد، أكبرها المباني. أخبرني مسؤول في المنظمة الدولية للهجرة أن عشرات الآلاف من المهاجرين محتجزون في مراكز الاعتقال منذ عام 2017. وفي وقت سابق من هذا العام، أخبرت ست نساء -تم احتجازهن في مركز يُدعى شرع الزاوية- محققي منظمة العفو الدولية أن هناك نساء تعرضن للاغتصاب أو يتعرضون لأشكال أخرى من العنف الجنسي. في أبو سليم، قُتل مهاجران على الأقل خلال محاولة هروب في فبراير 2021. قال مهاجر لمحققي منظمة العفو الدولية: “الموت في ليبيا طبيعي: لن يبحث عنك أحد ولن يجدك أحد”. أعلنت ديانا الطحاوي، التي تعمل في قضايا شمال إفريقيا بمنظمة العفو الدولية، في يوليو / تموز 2021، أن “الشبكة الكاملة لمراكز احتجاز المهاجرين الليبية متعفنة في صميمها”.

يتمّ وضع المهاجرين الذين يقبض عليهم خفر السواحل في حافلات، تم توفير العديد منها من قبل الاتحاد الأوروبي، ونقلهم إلى السجون. في بعض الأحيان، تبيع وحدات خفر السواحل المهاجرين إلى مركز احتجاز مقابل مبلغ مالي. البعض منهم، على ما يبدو، لم يصل أبدا إلى أحد السجون الرسمية. في الأشهر السبعة الأولى من سنة 2021، وفقا لمنظمة الهجرة الدولية تمّ أسر أكثر من 15 ألف مهاجر من قبل خفر السواحل الليبي، ولكن بنهاية تلك الفترة كان هناك حوالي 6 آلاف فقط محتجزين في منشآت مخصصة. يعتقد فيدريكو سودا، رئيس بعثة منظمة الهجرة الدولية في ليبيا، أن العديد من المهاجرين يختفون في منشآت “غير رسمية” يديرها مهرّبون وميليشيات ولا تستطيع مجموعات الإغاثة الوصول إليها قال “الأرقام ببساطة لا تتطابق”.

تمّ إنشاء سجن المباني في بداية عام 2021 على يد عماد الطرابلسي القيادي البارز في مليشيا جهاز الأمن العام . لهذه الميليشيا صلات بقيبلة الزنتان التي ساهمت في الإطاحة بالقذافي واحتجزت نجله سيف لسنوات. أما اليوم، المليشيا متحالفة مع حكومة الوحدة الوطنية وشغل الطرابلسي لفترة وجيزة منصب نائب رئيس المخابرات. (تعذر الوصول للطرابلسي للتعليق). قام ببناء السجن في ركن من أركان المدينة التي تسيطر عليه المليشيا، وأصبح أعضاؤها يمثّلون طاقم المنشأة وحرّاسها. وعيّن الطرابلسي، نور الدين الجريتلي، قائد ميليشيا معسول الكلام لإدارة السجن.

في السابق، أشرف الجريتلي على سجن للمهاجرين يسمي “تاجوراء” بالقرب من قاعدة عسكرية في الضواحي الشرقية لطرابلس. في تقرير لهيومن رايتس ووتش صدر عام 2019، وصف ستة محتجزين، بينهم صبيّان في السادسة عشرة من العمر، تعرّضهم للضرب المبرح في المنشأة، في حين تحدّثت امرأة عن تعرّضها لاعتداءات جنسية متكرّرة. وروى كاتبو التقرير رؤية محتجزة تحاول شنق نفسها بينما كان الحرّاس ينظرون إليها دون تقديم أي مساعدة. وبحسب محققي الأمم المتحدة، فقد طُلب من المهاجرين هناك أيضا القيام بأعمال قسرية في المنشأة بما في ذلك تنظيف الأسلحة وتخزين الذخيرة وتفريغ الشحنات العسكرية. في يوليو/تموز 2019، اثناء الحرب الاهلية ضربت قنبلة مركز الاحتجاز وسوت بالأرض حظيرة كان يحتجز فيها المهاجرون. قتل أكثر من 50 شخصا من بينهم 6 أطفال. وانتهى الأمر بمعظم المهاجرين الذين نجوا إلى الانتقال إلى سجن المباني. 

يقرّ الاتحاد الأوروبي أن سجون المهاجرين وحشية. قال المتحدث باسم الصندوق الائتماني “الوضع في هذه المراكز غير مقبول. يجب إنهاء نظام الاحتجاز التعسفي الحالي”. في العام الماضي، قال نائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل “إن قرار الاحتجاز التعسفي للمهاجرين يقع على عاتق الحكومة الليبية وحدها”. في اتفاقها الأولى مع ليبيا، وعدت ايطاليا بالمساعدة في تمويل عملية احتجاز المهاجرين وجعلها آمنة. اليوم، يصرّ المسؤولون الأوروبيون على أنهم لا يمولون المراكز بشكل مباشر. طبيعة إنفاق الصندوق الائتماني مبهمة، لكن المتحدث باسمه يقول إن الصندوق يرسل الأموال فقط إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تقدم “الدعم المنقذ لحياة المهاجرين واللاجئين المحتجزين”، بما في ذلك توفير “الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي، والمساعدة النقدية والمواد غير الغذائية”. إلا أن عضوة البرلمان الأوروبي تينيكي ستريك صرّحت لي أن هذا الادعاء ليس له أي معنى إلى حدّ كبير. وقالت: “إذا لم يموّل الاتحاد الأوروبي خفر السواحل الليبي وأجهزته فلن يكون هناك اعتراض للمهاجرين ولن تكون هناك إحالة إلى مراكز الاحتجاز المروّعة هذه”.

كما أشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي يرسل أموالا إلى حكومة الوحدة الوطنية، التي تشرف عليها “إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية” التابعة لها. وأضافت أنه حتى لو لم يكن الاتحاد الأوروبي يدفع بشكل مباشر لبناء مراكز الاحتجاز أو رواتب مسلحيهم، فإن أمواله، التي يتم إنفاقها من خلال الوكالات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، تدعم بشكل غير مباشر الكثير من عملياتها. تشتري أموال الاتحاد الأوروبي القوارب التي تأسر المهاجرين والحافلات التي تنقلهم إلى السجون وسيارات الدفع الرباعي التي تطاردهم على الارض. قامت وكالات الأمم المتحدة الممولة من الاتحاد الأوروبي بدفع ثمن البطانيات والملابس الشتوية والنعال التي يتلقاها المهاجرون عند وصولهم. كما قامت هذه الأموال ببناء الحمامات في العديد من المرافق، واشترت الصابون ومستلزمات النظافة وورق الحمّام الذي يستخدمه المهاجرون، وكذلك المراتب التي ينامون فيها. ويدفع صندوق الاتحاد الأوروبي الائتماني لأفريقيا تكاليف العربات التي تستخدمها السلطات الليبية لمطاردة المهاجرين الفارين من الاحتجاز، والقبض على من يدخلون البلاد عبر الصحراء الكبرى. عندما يمرض المحتجزون، تنقلهم سيارات الاسعاف التي اشتراها الصندوق الائتماني إلى المستشفى. وعندما يموتون، تدفع أموال الاتحاد الأوروبي ثمن أكياس جثثهم، وتدرّب السلطات الليبية على كيفية التعامل مع جثثهم بطريقة مناسبة دينيا. بشكل فردي، تساعد بعض هذه الجهود في جعل السجون أكثر إنسانية، ولكنها مجتمعة تساعد في الحفاظ على نظام وحشي موجود بحد كبير بسبب سياسات الاتحاد الأوروبي التي تعيد المهاجرين إلى ليبيا.

كتابات على جدار مركز احتجاز غريان كتبها مهاجرون. تُظهر الصور الثابتة، كلمات وتواريخ ملهمة. وتظهر ايضا كلمات مناهضة للشرطة الليبية. (The Outlaw Ocean Project ©)

 

تستخدم الميليشيات أيضا مجموعة متنوعة من الأساليب لتحقيق ربح من المنشآت مثل سرقة الأموال والبضائع التي ترسلها المنظمات الإنسانية والوكالات الحكومية للمهاجرين – وهو مخطط يُعرف باسم “تحويل المساعدات”. قال مدير مركز احتجاز في مصراتة لمحققين تابعين لـ هيومن رايتس ووتش إن الميليشيا التي تدير السجن كانت أيضا تدير شركة التموين التي تقدّم الطعام، واستولت على 85% من الأموال التي منحتها الحكومة ومجموعات الإغاثة لإطعام المهاجرين. كما تم توثيق سرقة الميليشيات للطعام والبطانيات والدلاء وأدوات النظافة. وخلصت دراسة داخلية موّلها الصندوق الائتماني في أبريل 2019 إلى أن الكثير من الأموال التي يرسلها عبر المنظمات الإنسانية انتهى بها الأمر إلى الميليشيات. وتقول الدراسة: “في معظم الأحيان إنها عمليّة تدرّ أرباحا”. 

تسمح القوانين، التي تعود إلى عهد القذافي، بإجبار الأجانب على العمل دون أجر، بغض النظر عن العمر. يمكن لمواطن ليبي أن يأخذ مهاجرين من مركز الاحتجاز ويصبح، “الكفيل” عليهم ويشرفون على عمل خاص لفترة محدّدة من الوقت مقابل مبلغ معيّن. في 2017، بثّت “سي إن إن” لقطات لسوق العبيد في ليبيا، حيث تمّ بيع المهاجرين للعمل في المزارع وحظائر البناء، وانطلق المزاد من مبلغ 400 دينار ليبي أو ما يعادل 88 دولارا للشخص الواحد. في 2021، قال أكثر من عشرة مهاجرين من سجن المباني، بعضهم لم يتجاوز عمره الرابعة عشر، لمنظمة العفو الدولية، إنهم أُجبروا على العمل في المزارع أو في المنازل الخاصة، وتنظيف وتحميل الأسلحة في مخيمات عسكرية أثناء أعمال عدائية نشطة. ربما يكون الابتزاز هو أكثر مخططات جني الأموال شيوعا داخل مراكز الاحتجاز. كلّ شيء له ثمن، الحماية والغذاء والدواء، والأغلى من ذلك كلّه الحرّية. لكن حتى دفع الفدية لا يضمن الإفراج، فبعض المهاجرين تتم ببساطة إعادة بيعهم إلى مركز احتجاز آخر. وقالت دراسة الصندوق الائتماني” لسوء الحظ ونتيجة للعدد الكبير لمراكز الاحتجاز ولتسليع المهاجرين، يتمّ احتجاز العديد منهم من قبل مجموعة أخرى بعد إطلاق سراحهم مما يؤدي إلى دفع فديات متعددة”.

في لقاء مع السفير الألماني في ليبيا، صور اللواء المبروك عبد الحفيظ، الذي يشرف على مديرية “مكافحة الهجرة غير الشرعية” التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، نفسه وبلده على أنهما مكلّفان بالقيام بعمل مستحيل. وأضاف قائلا: “ليبيا لم تعد بلد عبور، بل ضحيّة تُركت وحدها لمواجهة أزمة فشلت فيها دول العالم”.  (رفض عبد الحفيظ التعليق على هذا المقال). عندما اتصلت بالجريتلي، مدير سجن المباني، وسألته عن مزاعم سوء المعاملة هناك، أجاب قائلا: “لا يحدث أي انتهاك”، ثم أغلق الهاتف. 

بعد عدة أيام من وصولي إلى ليبيا، سافرت إلى قرقارش، حي المهاجرين الفقير حيث أقام كاندي لفترة وجيزة، للتحدث إلى محتجزين سابقين. خلال الحرب العالمية الثانية، استخدم الجيشان الايطالي والالماني المنطقة، التي كانت تسمى آنذاك “كامبو 59 أو فيلدبوست 12545″، كمعسكر لأسرى الحرب. اليوم، هي عبارة عن خلية النحل من الأزقة والشوارع الضيقة، وتحيط بها مطاعم الوجبات السريعة ومحلات الهواتف المحمولة. المداهمات التي يقوم بها رجال الميليشيات هي جزء من الحياة اليومية. سوماهورو، صديق كاندي، الذي تم اصطحابه معه إلى المباني عندما تم اعتراض زورقهم، قابلني على الطريق الرئيسي واقتادني إلى غرفة بلا نوافذ يسكنها مهاجران آخران. أثناء تناول وجبة “شانا ماسالا”، أخبرني عن الفترة التي قضاها في السجن. قال “الحديث عن هذا صعب حقًا بالنسبة لي”.

فيديو من قرقارش، أحد الأحياء الفقيرة للمهاجرين، ومقابلة شاهد عيان (Mea Dols De Jong / The Outlaw Ocean Project ©)

قال سوماهورو إن المهاجرين في مركز المباني كانوا يتعرّضون للضرب بسبب الهمس لبعضهم البعض، أو التحدث بلغاتهم الأصلية، أو الضحك. وكان يقع احتجاز مثيري الشغب لعدة أيام في غرفة العزل”، وهي محطة وقود مهجورة خلف زنزانة النساء مع لافتة “شال فيول” معلقة في المقدمة. غرف العزل بلا حمام لذلك كان على السجناء التبرّز في الزاوية. كانت الرائحة كريهة جدّا إلى درجة أن الحرّاس كانوا يرتدون أقنعة لدى زيارتهم لها. ربط الحراس أيدي المعتقلين بحبل معلق بعارضة سقف من الصلب وضربوهم. يقول سوماهورو: “ليس من السيء للغاية رؤية صديق أو رجل يصرخ أثناء تعذيبه.. لكن رؤية رجل طوله ستة أقدام يضرب امرأة بالسوط…”. في مارس/ آذار 2021، نظّم سوماهورو إضرابا عن الطعام احتجاجا على عنف الحرّاس فتمّ نقله إلى غرفة العزل. تعرّض للضرب مرارا ووقع تعليقه من العارضة رأسا على عقب. ويقول: “إنهم يعلقونك مثل قطعة من الملابس”. 

"ليس من السيئ رؤية صديق أو رجل يصرخ أثناء تعرضه للتعذيب. "لكن رؤية رجل طوله ستة أقدام يضرب امرأة بالسوط ..."

- المهاجر محمد دافيد سوماهورو

أكد العديد من المحتجزين الذين تحدثت إليهم أنهم شهدوا عدة انتهاكات جنسية وإهانات. أخبرتني أدجارا كيتا، وهي مهاجرة تبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما من ساحل العاج، احتجزت فيالمبانيلمدّة شهرين، أن النساء كثيرا ما يؤخذن من زنزانتها ليتمّ اغتصابهن من قبل الحرّاس. وتقول: “كانت النساء تعدن باكيات“. في أحد الأيام، بعد هروب امرأتين منالمباني”، قام الحرّاس، بإمساكها ونقلها إلى مكتب قريب وضربها في عمل انتقامي عشوائي على ما يبدو

يستخدم الحرّاس مهاجرين كمتعاونين، وهو تكتيك يبقيهم منقسمين. تطوّع محمد سوما، البالغ من العمر 23 عاما من جمهورية غينيا للمساعدة في المهام اليومية بعد وصوله، وسرعان ما تمّ دفعه للحصول على معلومات: أي المهاجرين يكرهون بعضهم البعض؟ ومن هم المحرّضون؟. عندما تمّ إضفاء الطابع الرسمي على هذا الاتفاق، أخذ المهاجرون يطلقون عليه اسمالمندوب“. إذا دفع مهاجرون فدية للمغادرة فكان هو من يتولّى المفاوضات. ولمكافأته، كان يُسمح له بالنوم خارج زنزانته في المستوصف أو مع الطهاة الذين يعيشون على الجانب الآخر من الشارع. وفي وقت من الأوقات، كهدية على ولائه، سمح له الحرّاس باختيار عدّة مهاجرين ليتمّ إطلاق سراحهم. وكان بإمكانه حتى مغادرة المجمع تماما رغم أنه لم يذهب بعيدا عنه، ويقول: كنت أعرف أنهم سيجدونني ويضربونني إذا حاولت المغادرة“.

زارت إحدى منظمات الإغاثة الدولية السجن مرّتين في الأسبوع. ووجدت أن كدمات وجروحا تملأ أجساد المحتجزين الذين كانوا يتجنبون التواصل العيني ويرتعبون إذا سمعوا أصواتا مرتفعة. في بعض الأحيان، كانوا يمرّون ملاحظات يائسة إلى طاقم مجموعة الإغاثة تتم كتابتها على كتيّبات السلامة الخاصة بكوفيد-19. أخبر الكثير من المهاجرين الأطباء أنهم يشعرون أنهممختفون”، وكانت أولى المسائل التي طلبها الكثيرون هي إخبار عائلاتهم أنهم على قيد الحياة. خلال إحدى الزيارات، لم يتمكّن الطاقم حتى من دخول زنزانة كاندي لأنها كانت مكتظة للغايةوقدّروا أن هناك 3 مهاجرين في كلّ متر مربّعمما أجبرهم على علاج المهاجرين في الفناء. أدى هذا الاكتظاظ إلى انتشار أمراض السل وجدري الماء والالتهابات الفطرية وكوفيد 19. وقد أخبر مهاجرون الأطباء بتعرّضهم للضرب في الليلة السابقة، وتمّ تسجيل إصابات بكسور وجروح وصدمات حادة، وقد أصيب طفل بجروح بليغة إلى درجة أنه لم يستطع المشي

في الأسابيع التي أعقبت اعتقال كاندي، أحضر أعضاء لجنة الإنقاذ الدولية، المياه والأغطية التي طلبتها المنشأة. ولكن بعد أسبوع، اكتشفوا ان الحراس احتفظوا ببعض الامدادات لانفسهم  فأعلنوا أنهم لن يقدموا المزيد من المساعدات لسجن المباني. قرب نهاية شهر مارس/آذار 2021، قام المسؤول القنصلي بسفارة غينيا كوناكري شريف خليل بزيارة السجن. وقف كاندي في الصف متظاهرا أنه من غينيا كوناكري وسأل عما إذا كانت السفارة تستطيع أن تساعد في إخراجه من السجن. قالي لي خليللقد كان يائسا“.

في منتصف وجبتي مع سوماهورو، رنّ هاتفي. وبدأ ضابط شرطة على الخط في الصراخ في وجهيلا يُسمح لك بالتحدث إلى المهاجرين. لا يمكنك أن تتواجد في قرقاش“. قال لي إنه إذا لم أغادر الحيّ فورا فسيتمّ اعتقالي. عندما عدت إلى سيارتي، أخبرني ضابط الشرطة الذي كان يقف هناك، أنني إذا تحدثت إلى أي مهاجرين آخرين فسوف يتم طردي خارج البلاد. بعد ذلك، لم يُسمح لي ولفريقي بالمغادرة بعيدا عن فندقنا. إذا أراد محتجزون سابقون رواية قصصهم، كان على أن أدخلهم إلى فندقي خلسة.

فيديو من داخل غرفة احتجاز رقم 3 بمركز احتجاز المباني من أكتوبر 2021. تظهر بها ظروف احتجاز المهاجرين، طفل يعاني من الحمى ورجل يعاني من نزيف دم وناس مستلقون على الأرض وآخرون يتحركون. (The Outlaw Ocean Project ©)

بينما كان كاندي في زنزانته تمسّك بإشاعة كانت قد اجتاحت المنشأة وتتمثل في أن الحرّاس سيطلقون المحتجزين في الزنزانة رقم 4 بمناسبة شهر رمضان. وفي انتظار شهر رمضان، وجد طرقا لتمضية الوقت مع لوثر بلعب الدومينو. تحدّث لوثر في دفتر يومياته عن احتجاج نفّذته سجينات وكتبكانوا في ملابس داخلية ويجلسن على الأرض لأنهن طالبن أيضا بإطلاق سراحهن“. وضع كاندي ولوثر ألقابا للحرّاس بناء على الأوامر التي كانوا يطلقونها. أحدهم كان يُعرف بـخمسة خمسةذلك لأنه كان يصرخ أثناء تناول الطعام مذكرا المهاجرين أنه على كلّ خمسة أشخاص أن يتقاسموا كلّ طبق. حارس آخر لُقّب بـقعمز”، وتعنياجلس”، لأنه كان يحرص على ألا يقف أحد. فيما كانالتزم الصمتيراقب المحادثات. في مرحلة معيّنة، اضطرّ كاندي ولوثر إلى الاهتمام بمهاجر بدا أنه يعاني من نوبة نفسية، وكان يضرب ويصرخ بأعلى صوته. كتب لوثرلقد كان غاضبا إلى درجة أننا اضطررنا إلى كبح جماحه حتى نتمكّن من النوم بسلام“. في النهاية، أخذه الحرّاس إلى المستشفى بعد أن ترجاهم كاندي، إلا أنه عاد بعد ثلاثة أيام مضطربا كما كان دائما. وكتب لوثروضعية لا تصدّق“.

مع نهاية شهر مارس/ آذار 2021، علموا انهم أنه لن يتمّ إطلاق سراحهم في رمضان. كتب لوثر في مذكراته، “الحياة هكذا في ليبيا. لا يزال يتعيّن علينا التحلّي بالصبر حتى نتمتع بحرّيتنا“. لكن كاندي بدا يائسا. عندما تمّ القبض عليه في البداية، فشل خفر السواحل بطريقة ما في مصادرة هاتفه الخلوي. وقد أبقاه مخفيا خوفا من أنه إذا تمّ الانتباه إليه فسوف يُعاقب بشدّة. ولكن بحلول نهاية شهر مارس/آذار، قام بإرسال رسالة صوتية إلى إخوته عبر واتساب محاولا شرح الموقف بسرعة. وترجّاهم قائلا:لا يمكن الاحتفاظ بالهاتف هنا لفترة طويلة. كنا نحاول الذهاب إلى إيطاليا عبر البحر. لقد قبضوا علينا وأعادونا ونحن الآن محتجزون في السجن.. جدوا طريقة للاتصال بوالدنا“. ثم انتظر على أمل أن يتمكنوا معا بطريقة ما جمع الفدية

“كيف حالكم؟ كيف هو العمل؟ هل انت في سلام اعثر على طريقة للاتصال بوالدنا وإخباره أننا محبوسون في السجن هنا في ليبيا بينما كنا نحاول دخول إيطاليا. الدولية أعادتنا. كنا نحاول الوصول إلى إيطاليا عن طريق المياه ، وقبضوا علينا وأعادونا. نحن الآن في السجن. غدا ندعو الناس ونخبرهم. ساليو ، رفيقي في العمر ساليو ، سيتصل بك غدًا وسنجعلك تفهم كل شيء. أحييكم وآمل أن تكونوا في سلام. لا يمكنك إبقاء الهاتف قيد التشغيل لفترة طويلة هنا لأنهم لا يتفقون مع الأشخاص الذين يستخدمون هواتفهم. جئت إلى هنا بهاتفي ، وخبأته عندما وصلنا إلى الماء. ساليو سيتصل بك غدا ، رفيقي في العمر سيتصل بك غدا إن شاء الله ، هل تفهم؟ إنهم يحتجزوننا هنا “.

أليو كاندي يتصل بإخوته من سجن المباني طالبًا المساعدة، 30 مارس 2021. (The Outlaw Ocean Project ©)

في الثانية من فجر يوم 8 شهر أبريل/نيسان 2021، استيقظ كاندي على ضوضاء قادمة قادمة من الزنزانة رقم 4، كان العديد من المهاجرين السودانيين يحاولون فتح الباب والهرب. خشي كاندي من أن يعاقب جميع السجناء وقام بإيقاظ سوماهورو الذي واجه السودانيين مع مهاجرين آخرين. وقال لهم سوماهورو: “لقد حاولنا الفرار عدّة مرّات من قبل ولم ننجح أبدا. لقد تعرّضنا للضرب”. عندما لم يستمعوا إليهم، طلب سوماهورو من أحد المهاجرين تنبيه الحرّاس الذين قام أحدهم بوضع شاحنة رمل أمام باب الزنزانة وسدّها بالكامل. قام السودانيون بسحب أنابيب حديدية من جدار الحمام وضربوا من تدخّلوا ضدّهم. أُصيب مهاجر في عينيه وسقط آخر على الأرض والدم يتدفق من رأسه. بدأت مجموعات في رشق بعضها البعض بالأحذية ودلاء بلاستيكية وزجاجات شامبو وقطع من ألواح الجبس المكسورة.

حاول كاندي الابتعاد عن الشجار وقال لسوماهورو:” لن أقاتل.. أنا أمل عائلتي بأكملها”. استمرّ الشجار لمدّة ثلاث ساعات ونصف. صرخ المهاجرون طلبا للمساعدة قائلين “افتحوا الباب!”. ولكن عوضا عن ذلك، ضحك الحرّاس وهلّلوا وقاموا بتصوير المعركة كما لو كانت عملية نزال داخل قفص. وقال أحدهم وهو يمرّر زجاجات المياه من خلال البوابة لإبقاء المتشاجرين منتعشين “استمرّوا في القتال.. إذا كنت تستطيع قتلهم فافعل ذلك”.

في الخامسة والنصف صباحا، غادر الحرّأس وعادوا ببنادق نصف آلية. ودون سابق إنذار، أطلقوا النار على الزنزانة عبر نافذة الحمّام لمدّة عشر دقائق متواصلة. قال لي سوماهورو: “بدت وكأنها ساحة معركة”. أصيب إسماعيل دومبويا وأيوبا فوفانا، وهما مراهقان من غينيا كوناكري، في ساقيهما. أصيب كاندي، الذي كان يختبئ داخل الحمام أثناء القتال، في رقبته. ترنّح على طول الجدار ملطّخا بالدماء ثمّ سقط على الأرض. حاول سوماهورو إبطاء النزيف بقطعة قماش. بعد عشر دقائق مات كاندي. 

وصل الجريتلي بعد عدّة ساعات. وصرخ في الحرّاس قائلا “ماذا فعلتم؟ يمكنكم فعل أي شيء لهم ولكن لا يمكنكم قتلهم!”. رفض المهاجرون تسليم الجثمان، فاستدعى الحرّاس المذعورون سوما، المندوب، للتفاوض معهم. في النهاية وافقت الميليشيا على إطلاق سراح المهاجرين مقابل الجثة. وقال سوما “أنا سوما سأفتح هذا الباب وستخرجون يا رفاق، ولكن هناك شرط واحد. عندما تخرجون، لا تتسبّبوا في مشاكل ولا تتسبّبوا في فوضى. سأكون أمامكم وسأركض معكم حتى الخروج”. قبل الساعة التاسعة صباحا بقليل، اتخذ الحرّاس مواقعهم بالقرب من البوابة رافعين البنادق. فتح سوما باب الزنزانة وطلب من 300 مهاجر أن يتبعوه خارج السجن ببطء في صفّ واحد دون أن يتحدثوا. تباطأ عدد من الركّاب في الصباح وهم يحدّقون في سيل المهاجرين أثناء خروجهم وتفرقوا في شوارع طرابلس.

بحلول يومي الثامن في طرابلس، كنت أجمع تفاصيل حادثة وفاة كاندي. وقمنا بإجراء مقابلات مع عشرات المهاجرين والمسؤولين وعمّال الإغاثة. كان لديّ انطباع واضح أن موظفي الفندق و”حرّاس الأمن” الخاصّين بنا يبلغون السّلطات بتحرّكاتنا. 

يوم الأحد 23 مارس/أيار 2021، قبل الساعة الثامنة بقليل، كنت جالسا في الفندق، على الهاتف مع زوجتي عندما طرق الباب. عندما فتحته اقتحم عدد من المسلّحين الغرفة مصوّبين مسدّساتهم نحو جبهتي وصرخوا “انزل على الأرض”. وضعوا غطاء على رأسي وضربوني – قاموا بركلي ولكمي وداسوا على وجهي – تاركين ضلعين مكسورين ودماء في البول وتلفا في كلّيتي، ثمّ سحبوني من الغرفة. 

كان فريقي من الباحثين في طريقهم لتناول العشاء بالقرب من الفندق الذي كنا نقيم فيه. اصطدمت شاحنة صغيرة بيضاء بسيارة مدنية أمامهم، ممّا أدى إلى قطع الطريق، وقفز من الشاحنة رجال ملثّمين ومسلّحين. أخذوا سائق فريقي من السيارة وقاموا بضربه بالمسدّس ووضعوا عصابات على أعين زملائي واقتادوهم بعيدا. تمّ نقلنا جميعا إلى غرفة استجواب في موقع أسود، تعرّضت للضرب مجددا على رأسي وضلوعي. كنت أستمع إلى رجال يهدّدون الآخرين. صرخ أحدهم في وجه مصوّرنا بيار كيتر “أنت كلب!” وضربه على وجهه. همسوا بتهديدات جنسية لعضوة فريقنا ميا دولس دو جونغ، وهي مخرجة هولندية، قائلين: “هل تريدين حبيبا ليبيا؟”. بعد سويعات قليلة، نزعوا أحزمتنا وخواتمنا وساعاتنا ووضعونا في زنازين. 

اكتشفت منذ ذلك الحين، من خلال مقارنة صور الأقمار الصناعية والقليل الذي لمحناه من المناطق المحيطة، أننا كنّا في سجن سرّي صغير على بعد مئات الأمتار من السفارة الإيطالية. أخبرنا آسرونا أنهم جزء من “جهاز المخابرات الليبي”، وهو وكالة اسميا تابعة لحكومة الوحدة الوطنية التي تشرف أيضا على سجن المباني – ولكنها (وكالة) مرتبطة بميليشيا تسمّى كتيبة النواصي. تفاخر المحققون بأنهم عملوا معا في عهد القذافي. ادعى أحدهم، الذي كان يتحدّث الانجليزية، أنه قضى وقتا في كولورادو في برنامج تدريبي تديره وزارة الأمن الداخلي الأمريكية يركّز على إدارة السجون. 

سجن سري تديره المخابرات الليبية واختفى فيه صحفيون من قبل فرق النواصي (The Outlaw Ocean Project ©)

وُضعتُ في زنزانة منعزلة تحتوي على مرحاض ودش وفرشة إسفنجية على الأرض وكاميرا مثبتة في السقف. كان هناك فتحة صغيرة مستطيلة في الباب مرر الحرّاس من خلالها علب الأرز الأصفر وزجاجات المياه. في كلّ يوم، كان يتمّ استجوابي لساعات. ظلّ رجل يقول لي: “نعلم أنك تعمل في وكالة المخابرات الأمريكية.. هنا في ليبيا التجسس عقوبته الإعدام”. أحيانا، كان يضع مسدّسا على الطاولة أو يصوّبه نحو رأسي. بالنسبة لمن قام بأسري، أصبحت الخطوات التي اتخذتها لحماية فريقي دليلا على تورّطي. لماذا يرتدون أجهزة تتبّع؟ ولماذا يحملون نقودا ونسخا من جوازات سفرهم في أحذيتهم؟ لماذا لديّ “جهازي تسجيل سرّيين” في حقيبتي (Apple Watch وGoPro) جنبا إلى جنب مع مجموعة من الأوراق بعنوان “مستند سرّي” (قائمة جهات اتصال في حالة طوارئ التي كانت في الواقع تسمّى “مستند أمان”). 

وُضعت في زنزانة منعزلة تحتوي على مرحاض ودش وفرشة إسفنجية وكاميرا مثبتة في السقف.

- إيان أوربينا

حقيقة أنني كنت صحفيا لم تكن حجة دفاعية بقدر ما كانت جريمة ثانية. قال لي الخاطفون إنه من غير القانوني إجراء مقابلات مع مهاجرين سجن المباني. وسألوني “لماذا تحاول إحراج ليبيا؟”. أكدوا أن الولايات المتحدة لها مشاكلها الخاصّة، وقالوا لي مرارا وتكرارا “لقد قتلتم جورج فلويد”. بدأت أشعر باليأس، ولفترة من الزمن، فتحت غطاء المرحاض وفككت بعضا من السباكة على أمل استخدام قطعة معدنية لفك قضبان النافذة. في مرحلة ما، نقرت على جدار زنزانتي وسمعت عضوا من فريقي ينقر مرّة أخرى، الأمر الذي وجدته، لأسباب غير منطقية، مطمئنا. 

بعد أن كانت قد استمعت إلى بداية عملية اختطافي، أبلغت زوجتي وزارة الخارجية الأمريكية التي بدأت مع وزارة الخارجية الهولندية في الضغط على حكومة الوحدة الوطنية من أجل إطلاق سراحنا. في مرحلة ما، تمّ أخذنا من زنازيننا لتسجيل فيديو “إثبات الحياة”. طلب منا سجانونا أن نغسل الدماء والأوساخ عن وجوهنا وأن نجلس على أريكة أمام طاولة بها مشروبات غازية ومعجنات. وقالوا لنا “ابتسموا” وأمرونا أن نقول أمام الكاميرا إننا نتلقى معاملة إنسانية. “تحدثوا… ابدوا طبيعيين”. بعد أيام من احتجازنا في الأسر، وافقت الميليشيا على إطلاق سراحنا. طُلب منا التوقيع على وثائق “اعتراف” مكتوبة باللغة العربية على ورق يحمل عنوان “إدارة مكافحة العداء” وموقعة من اللواء حسين محمد العايب. عندما سألنا عن محتوى الوثائق، ضحك خاطفونا. احتفظوا بأجهزة الكمبيوتر والهواتف والنقود بالإضافة إلى معدات تصوير بقيمة ثلاثين ألف دولار وخاتم زواجي.

قدّمت لنا التجربة -المخيفة للغاية ولكن القصيرة لحسن الحظ – لمحة صغيرة عن عالم الاحتجاز إلى أجل غير مسمى في ليبيا. غالبا ما كنت أفكّر في المدة التي بقي فيها كاندي محتجزا في الأسر وكم كانت النهاية بالنسبة إليه أكثر وحشية. في 28 مايو/أيار 2021، تمّ إطلاق سراحنا أنا وفريقي ومرافقتنا نحو الباب. ولكن مع اقترابنا منه، وضع محقّق يده على صدري قائلا لبقية أعضاء فريقي: “يمكنكم الذهاب لكن إيان سيبقى هنا”. حدقنا في بعضنا البعض جميعا ثم انفجر ضاحكا وقال إنه كان يمزح فقط. تمّ نقلنا إلى طائرة حلّقت بنا إلى خارج البلاد وتمّ ترحيلنا رسميا لارتكاب جريمة إعداد تقرير عن المهاجرين.

بعد الإفراج عن المحتجزين في الزنزانة رقم 4 انتشر خبر وفاة كاندي بسرعة عبر طرابلس. وصل النبأ في نهاية المطاف إلى زعيم مجتمعي بين المهاجرين (الذي طلب إخفاء هويته) ذهب زعيم المجتمع مع بالدي، عمّ كاندي الأكبر الذي كان يعيش في طرابلس، إلى مركز الشرطة بالقرب من سجن المباني حيث تمّ إعطاؤهم نسخة من تقرير التشريح. قالوا إن اسمه غير معروف، وذكروا خطا انه من غينيا كوناكري. ورجّحوا وفاته في شجار الأمر الذي أغضب الزعيم المجتمعي. وقال لي “لم يكن شجارا.. بل كانت رصاصة”. لاحقا، ذهبوا إلى المستشفى المحلّي للتعرّف على جثة كاندي التي كانت على متن ناقلة معدنية ملفوفة بقطعة قماش شاش بيضاء تمّ فكّها جزئيا لكشف وجهه. خلال الأيام التالية، تنقلوا عبر طرابلس لسداد ديون كاندي التي تكبّدها إثر وفاته، 188 دولارا للإقامة في المستشفى، و19 دولارا للكفن الأبيض وملابس الدفن، و236 دولارا كلفة مراسيم دفنه الذي سيتم لاحقا.

علمت عائلة كاندي بوفاته بعد يومين من الحادثة. أخبرني والده سامبا أنه بالكاد يستطيع النوم أو الأكل قائلا: “الحزن يثقل كاهلي”. أنجبت هافا طفلهما الثالث، وهي ابنة تدعى كاداتو، تبلغ من العمر عامين الآن، وأخبرتني أنها لن تتزوّج مرّة أخرى حتى تنتهي من الحداد قائلة: “قلبي محطّم”. جاكاري، شقيق كاندي لم يكن لديه أمل في اعتقال قتلة أخيه قائلا: “لا أعتقد أنهم سيفعلون ذلك.. لذا كاندي رحل، رحل بكلّ الطرق”. ساءت ظروف المزرعة بسبب الفيضانات وفقدان أحد عمّالها. كلّ ذلك دفع ببوبو، شقيق كاندي الأصغر، إلى القول بأنه سيحاول على الأرجح القيام برحلة إلى أوروبا قائلا “ماذا يمكنني أن أفعل؟”.

لحظة تعرف عم كاندي على ابن أخته في مشرحة طرابلس. (The Outlaw Ocean Project ©)

تمّ تعليق الجريتلي عن ادارة المباني بعد وفاة كاندي ولكن بعد بضعة أسابيع عاد إلى منصبه. ورفضت منظمة أطباء بلا حدود، التي تساعد المهاجرين في مراكز الاحتجاز، زيارة السجن. كتبت رئيسة بعثة المنظمة في ليبيا بياتريس لاو “لقد وصل النمط المستمرّ لحوادث العنف والأذى الجسيم للاجئين والمهاجرين، فضلا عن الخطر على سلامة موظفينا، إلى مستوى لم نعد قادرين على القبول به”. وقد استأنفت المنظمة أنشطتها بعد تلقي تأكيدات من السلطات الليبية بأنه لن يكون هناك مزيد من العنف وأنه سيتم السماح لفرقها بالوصول إلى السجن دون عوائق. لاحقا. في أكتوبر/تشرين الأول 2021، اعتقلت السلطات الليبية، بما في ذلك ميليشيا الزنتان، 5000 مهاجر في قرقاش، أرسل الآلاف منهم إلى سجن المباني. وفي غضون أسبوع، أطلق الحرّاس النار على مهاجرين حاولوا الهرب مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص. 

بعد وفاة كاندي، دعا سفير الاتحاد الأوروبي ساباديل إلى إجراء تحقيق رسمي. ويبدو أنه لم يتمّ إجراء هذا التحقيق أبدا (قال متحدث باسم الاتحاد الأوروبي “أن تأكيدات السلطات الليبية بأن هذه الأحداث سيتم التحقيق فيها وان الاجراء القضائي المناسب سيتم ترجمته إلى واقع عملي. ويجيب محاسبة الجناة. ولا يمكن أن يكون هناك إفلات من العقاب على مثل هذه الجرائم”). لا يزال التزام أوروبا ببرامجها المناهضة للمهاجرين في ليبيا ثابتا. جدّدت إيطاليا في 2020 مذكرة التفاهم مع ليبيا حتى 2023. ومنذ مارس/آذار 2021، وبدعم من الاتحاد الأوروبي استثمرت إيطاليا ما لا يقل عن 3.9 ملايين دولار إضافية في خفر السواحل، التزمت المفوضية الأوروبية ببناء “مركز تنسيق الإنقاذ البحري الجديد” لخفر السواحل وشراء ثلاث سفن إضافية.

في 30 أبريل/نيسان 2021، بعد صلاة الخامسة مساء بقليل، اجتمع بالدي وحوالي عشرين آخرين في مقبرة بئر الأسطى ميلاد لحضور جنازة كاندي. تحتل المقبرة قطعة أرض مساحتها ثمانية أفدنة بين محطة كهرباء فرعية ومستودعين كبيرين. دفن كثير من المهاجرين القتلى هناك، تضمّ المقبرة حاليا حوالي 10 آلاف قبر، العديد منها دون شواهد. صلّى الرجال بصوت عال بينما تمّ إنزال جثة كاندي في حفرة ضحلة لا يزيد عمقها عن قدم ونصف محفورة في الرمال. وضعوا فوق القبر ستة قطع من الحجارة المستطيلة وسكبوا طبقة من الإسمنت. بعد لحظات من الصمت، قال الرجال في صوت واحد “الله أكبر”. ثم قام أحدهم، باستخدام عصا، بكتابة اسم كاندي في الخرسانة الرطبة.

لقطات بطائرة بدون طيار لمقبرة المهاجرين في ليبيا حيث دفن كاندي. (Pierre Kattar /The Outlaw Ocean Project ©)

{{ reviewsTotal }}{{ options.labels.singularReviewCountLabel }}
{{ reviewsTotal }}{{ options.labels.pluralReviewCountLabel }}
{{ options.labels.newReviewButton }}
{{ userData.canReview.message }}

الاكثر قراءة

اخر الاصدارات

فايسبوك

تويتر

اشترك في القائمة البريدية

أعزاءنا المستخدمين والمستخدمات لمنصة اللاجئين في مصر، يسعدنا أن تبقوا على إطلاع دائم على كل التحديثات الهامة المتعلقة بالأخبار اليومية والخدمات والإجراءات والقضايا والتقارير والتفاعل معها من خلال منصاتكم على وسائل التواصل الاجتماعي، إذا كنتم ترغبون في الاشتراك في نشرتنا الإخبارية والإطلاع على كل جديد، سجلوا الآن.